حمد حسن التميمي
لا شك أن المشهد في فلسطين وتحديدا في غزة لم يكن يوما أكثر عتامة ومأساوية مما هو عليه اليوم، فرائحة الموت تفوح من كل بيت وأصوات الأمهات تتردد في كل ركن، وعائلات برمتها انمحت تماما من السجلات، لكن وسط كل هذا الظلام والعتمة يبزغ بصيص من نور، ومن وراء هذه المأساة يلوح الأمل، فالقضية الفلسطينية لم تكن يوما واضحة أمام العالم مثلما هي اليوم، فقد تعرت الحقيقة ببشاعتها والمجازر بفظاعتها أمام العالم، ولم يكن للقضية الفلسطينية خارج الحدود العربية مناصرون بمثل هذا العدد والحماس الذي نشهده اليوم من مناصري الحق.
ولكن من المضحكات المبكيات أن مئات الجثث وعشرات المعتقلين وصرخات الأمهات ودموع الأطفال لم تشد انتباه العالم، ولم تنجح في كشف الوجه القبيح للاستيطان مثلما فعلت كلمات كوميدية ساخرة أو ما يعرف «بالكوميديا السوداء»، حيث تغيرت المعادلة وانقلبت موازين الحرب الإعلامية في القنوات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية بفضل لقاء إعلامي أجراه الكوميدي المصري باسم يوسف مع الإعلامي البريطاني بيرس مورغان أضحك الملايين من المشاهدين، وأيقظ ضمائرهم، واستفز وعيهم بطريقة ذكية وسلسة، فهذا اللقاء الذي دام قرابة الأربعين دقيقة كشف أن الحرب الإعلامية التي تدور رحاها حاليا لا تقل ضراوة عن الحرب في الميدان، لكن هذه الحرب الإعلامية مختلفة هذه المرة فالوجوه التي أطلت في الأحداث الأخيرة أكثر فطنة وذكاء ممن سبق لهم تمثيل القضية، فباسم يوسف فهم طبيعة المجتمع الأوروبي واللغة المناسبة لمخاطبته وتغيير أفكاره المتحجرة التي بنيت على مغالطات إعلامية وتاريخية ورواسب فكرية وصور نمطية تشكلت على مدى سنوات وعقود، ولعل موهبة وذكاء باسم وقدرته على المزج بين المعلومات والإحصائيات من جهة وبين الطابع الكوميدي جعلت كلماته وتصريحاته محور العديد من البرامج التحليلية التي ركزت على المحتوى والرسالة وأيضا على الطريقة والأسلوب، فقد أوصل خلال ما يقل عن ساعة ما عجزت حكومات وحركات مقاومة وسفراء وناشطون حقوقيون على إيصاله على مدى عقود.
لقد رأى العالم النسخة الثانية من القصة الأصلية والحقيقة التي كانت مغيبة أو مشوهة لديهم فأدركوا الواقع، واطلعوا على التاريخ والمجريات في الميدان من خلال طرح في غاية البساطة والوضوح وطرح فرضيات وأسئلة قد تبدو بسيطة لكنها في غاية التعقيد تجعل المشاهد يعيد النظر في تبنيه لموقف مساند للجانب الصهيوني، حيث خاطب الصحفي المخضرم ومعه المشاهدون «لنفترض أن هناك عالماً بدون حماس، ودعونا نسمي هذا العالم بالضفة الغربية، هل يوجد سلام هناك؟» فباسم جعل المشاهدين يفكرون في إمكانية إحلال السلام في غياب حماس، وإذا كان كذلك لماذا لم يتحقق هذا السلام خلال السنوات الماضية؟
هذا اللقاء يستحق أن يحلل، ويناقش ويدرس ليس فقط لكونه لقاء دسماً مركزاً مليئاً بالمعلومات التاريخية والميدانية والإحصائية، وانما أيضا لتوفر عدة عناصر فيه فهو لقاء يكشف أهمية لغة الجسد في إيصال الرسائل، فكل تعابير باسم ساعدت في إيصال رسالة مفادها أننا كشفنا ألاعيبكم وتلاعبكم بالحقيقة، وأننا أذكى مما تظنون أو تتوقعون، وأن مخططاتكم مكشوفة أمامنا، ولا يمكنكم أن تخدعونا بعد الآن. فباسم تكلم دون انقطاع، ولا ارتباك، وكان واثقا من كل كلمة، وكان متأكدا أنه يقف مع الحق، في حين بدأ الارتباك والتردد والخوف واضحاً على محاوره الذي كان يخاف أن تنقلب كل كلمة ضده، ورغم تلقائية باسم وحرص بيرس على كل كلمة إلا أن المناظرة الكلامية انتهت بفوز ساحق لصوت الحق وبهزيمة مذلة لمن كان مناصرا للظالم المغتصب.
في الختام ورغم الفوضى التي تعم المشهد الإعلامي إلا انه لا مجال للشك أن الكثير من المعطيات قد تغيرت بشكل ملحوظ بفضل هذا اللقاء وغيره من اللقاءات والتصريحات الذكية التي لامست عقول وقلوب المشاهدين من الشق الآخر من العالم، وأيضا لا يمكن بأي شكل من الأشكال إنكار الدور الكبير الذي لعبه المؤثرون بمواقع التواصل الاجتماعي الذي كانوا القوة المحركة لمجريات الصراع، وهو ما تأكد من خلال تراجع بعض الدول في دعم الكيان المحتل على الأقل بشكل معلن، وهو ما نتوقع تواصله في الأيام القادمة في ظل الضغط الذي يمارسه الرأي العام العالمي على الحكومات المتواطئة.